إبليس عصي الله ولكنه لم يجرؤ أن يتحداه لعلمه أنه قادر عليه
والله أنظره ليكون أحدي أدواته في فتنة وتمحيص البشر والتسلط علي من يتولونه من الإنس والجن
درج علي ألسنة الناس وعلماء السلف من المسلمين أو أهل الكتاب منذ عصر آدم وحتى الآن مقولة بثها إبليس بين الناس وتداولتها الألسن منذ عقود موغلة في القدم مفادها: أن إبليس تحدي الله عندما رفض السجود لآدم ثم قام بإغوائه وحواء ليخرجهما من الجنة وما زال يتحدى الله بإغواء وإضلال البشر.
وهذه مقولة خطيرة تنطوي علي أهداف ومرامي خبيثة تسيء للذات الإلهية بطريقة غير مباشرة، لأننا لو أقررنا أن إبليس تحدي الله فسينطبع بداخلنا شعور لا إرادي بأن إبليس مساوي لله في القدرة والقوة والحكم وأن الله غير قادر علي ردعه أو صده أو وقف تحديه له. وهذا ما كان يردده بالفعل كل من يشرك بالله ويتخذ معه آلهة أخري شريكة له في الملك والحكم اتقاء لشرهم وعلي رأسهم إبليس الذي تعبدت له الأمم السالفة بمسميات مختلفة.
والحقيقة أن إبليس كما أنبأنا الله في قرآنه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لم يتحدى الله، بل ناشده وترجاه وطالبه أن ينظره ليوم البعث، وهذا دليل منه علي إقراره بربوبية الله رغم عصيانه له في السجود لآدم، وأنه لا يستطيع فعل شيء مع آدم وذريته بدون أذن وسماح له بذلك من المولي عز وجل لحكمة أرادها الله وأوضحها لنا بالقرآن كما سنوضح بعد قليل.
فما فعله إبليس هو رفضه الدخول تحت رياسة وطاعة وحكم آدم والتنازل عن خلافته ورياسته وحكمه هو وذريته علي كل من في الأرض والسماء عندما كان عبداً مطيعاً لله قبل أن يعصاه ويرفض السجود (أي تقديم الطاعة والقيادة والولاء) لآدم الذي كرمه الله وفضله عليه وعلي سائر المخلوقات لأنه قبل حمل الأمانة وتحمل تبعاتها التي رفض إبليس وسائر المخلوقات حملها، وأصبح الإنسان ظلوماً جهولاً عندما فرط في هذه الأمانة وأساء استخدامها.
والأمانة ليست العقل كما هو مشاع لأن جميع مخلوقات الله عاقلة مفكرة بما فيها الحيوانات والجبال والكواكب والنجوم وجميع الجمادات، ودليل وجود عقل لها هو رفضها لحمل هذه الأمانة التي حملها الإنسان فكان بحمله لها ظلوماً جهولاً. قال تعالى :
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً (الأحزاب : 72 ).
فالأمانة كما شرحت بكتاب "لباس التقوى وأسرار الحج والأنعام والهالة النورانية" هي الإرادة التي تفضي إلي حرية الاختيار فيصبح الإنسان مخير غير مسير في غالبية أموره بما فيها أمور عبادة الله وطاعته، ويتحمل بموجبها تدبير كل أعباء معيشته وحياته، أو يكون عبداً مسيراً طائعاً لله ينفذ أوامره بلا حاجة لأي وسائل أقناع أو تفكير في حكمة وهدف ما يأمر به ويتحمل الله تدبير جميع شئون معيشته وحياته من ملبس ومسكن ومأكل ومشرب ورزق مثله مثل الملائكة والحيوانات وسائر المخلوقات في هذا الكون.
ثم اتضح لي بعد ذلك عند البحث في موضوع أصحاب السلطان الإلهي أو أصحاب الأسماء الحسنى أو الأوامر الإلهية أو المدبرون أمراً الذين يدبرون كل شئون الكون والخلق، أن الأمانة هي أمانة حمل الأسماء أو الصفات الحسني لله كالرحمة والعطاء والإحسان.....الخ، وأسماء أو صفات القوة والقهر والجبروت والإمساك والمنع والانتقام والعزة والهيمنة والسيطرة.......الخ، والتصرف مع هذه الصفات بحكمة وميزان اعتدال بحيث لا تطغي صفات علي أخري وتصبح هي المسيطرة علي كل تصرفات الإنسان. لذا طالبنا الله بألا نطغي في الميزان أي ميزان الاعتدال بين هذه الصفات أو ميزان التعامل مع الناس فنكيل الأمور بمكيالين حسب أهوائنا.
فالأمانة سلاح ذو حدين من يحسن استخدامها يصبح إنساناً معتدلاً في تصرفاته وأحكامه، كاملاً طائعاً مخلصاً لله في عبادته محباً له مقتنع تمام الاقتناع بلا أي جبر بقدرة وقوة وربوبية ووحدانية خالقه، ومن يسئ استخدامها يتصرف بقوة وجبروت وكبر وتعالي وكأنه إله بالأرض، فيعصي الله ويكفر أو يشرك به ويتكبر ويفسد كما شاء في الأرض، فيغتر بنفسه معتقداً في قرارة نفسه أنه إله ذو قوة وإرادة ومساوي لله في القدرة والقوة، وأن الله لن يقدر عليه فيكفر بالآخرة والحساب والبعث.
وتعالوا لنتعرف علي حقيقة ما فعله إبليس، ونتعرف علي طبيعة ما دار بينه وبين الخالق من حوار طبقاً لما كشفه الله وأنبأنا به في قرأنه الكريم الذي أنتم غافلون عن فهم الكثير من آياته الواضحة الجلية :
عندما أمر الله الملائكة وإبليس (وكان من الجن وخليفة لله ورئيس علي الملائكة والجن وسائر المخلوقات بالأرض والمجموعة الشمسية)، أن يقدموا الطاعة والولاء لهذا المخلوق الذي خلقه الله بيديه وقبل حمل الأمانة فكرمه الله بها واختاره خليفة جديد بالأرض جميعاً (أرضنا وكواكب مجموعتنا) وكل ما بها من مخلوقات بما فيها ملائكة الأرض والملأ الأعلى، رفض إبليس تنفيذ هذا الأمر متعللا لله بالآتي :
· أنه أفضل في طبيعة خلقته من آدم فهو مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين.
· أنه وذريته الأحق باستمرار خلافته ورياسته في الأرض من أدم وذريته لأنهم لن يكونا أكثر طاعة منه وذريته لله، وسيكون أكثرهم كافرون بالله ومشركون به وغير شاكرين له.
وطلب إبليس من الله أن ينظره ليوم يبعثون ويعطيه سلطان علي كل البشر ليثبت له أنه قادر علي صدهم عن عبادته وقادر علي حثهم علي الشرك به، وأن البشر سيطيعوه في كل ما يأمرهم بهم ويتخذونه إلهاً من دون الله بموجب هذا السلطان الذي سيمنحه الله له، فالبشر لا يخشون إلا كل من يروه أمام أعينهم ذو سلطان وجاه (يقصد أنهم بيخافوا وما يختشوش)، وطلب من الخالق أنه لو نجح في أثبات ذلك له فعلي الله أن يعفو عنه ويرد الخلافة في الأرض له ولذريته.
فلبي الخالق جل وعلا طلبه بأنظاره ليوم الوقت المعلوم وليس يوم البعث ليكون مصدر فتنة وبلاء واختبار للبشر في هذه الحياة الدنيا، وأداة من أدوات الخالق لتعذيب من يتخذونه وذريته أولياء لهم من دون الله، ومنحه الله سلطان علي كل من يتبعه فقط، وتوعده بأنه لن يعفيه من محاسبته علي جريمة عصيانه أمر السجود لأدم الذي كرمه الله عليه، كما سيحاسبه علي أي جرائم أخري أو فساد يرتكبهما في الأرض.
فالشيطان
في النهاية هو أداة من أدوات الخالق لفتنة واختبار بني آدم، اختاره الله لهذه
المهمة لعلمه بأنه الأصلح والأنسب لها من بين جميع مخلوقاته، فالله لا يخلق مخلوق
لتكون وظيفته الفتنة والشر والضلال فقط مثل إبليس، فكل مخلوق خلقه الله فيه
النجدين (الخير والشر) فالخيرين يغلبوا طباع الخير علي طباع الشر بتصرفاتهم
وعبادتهم والخبيثين يغلبوا طباع الشر في كل سلوكياتهم. والفتنة سنة من سنن الله في
خلقه فآدم كان فتنة لإبليس فافتتن بها وعصى الله ورفض السجود له ثم اصبح هو وذريته
فتنة لآدم وذريته. قال تعالى:
أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) (العنكبوت)
وقد أختار الله إبليس وأنظره ليوم الوقت المعلوم ليكون فتنة لبني آدم لعلمه أنه يكن عداوة وحقد دفين لا مثيل له علي أدم وذريته لأنهما سب نزع الخلافة والسيادة منه في الأرض والمجموعة الشمسية حسب ظنه، والسيادة والرياسة هما كل مبتغى إبليس وغايته، وكانت عبادته وطاعته لله مربوطة بتسييده وذريته علي سائر المخلوقات بالأرض جميعاً، فلما شعر أن الله ينزع منه هذا الملك والسلطان عصي أمر الله بالسجود لآدم (أي تقديم الطاعة المطلقة والولاء له والعمل تحت رياسته)، ومن ثم فسيفعل إبليس كل ما في وسعه لحث آدم وكل نسله علي الضلال والفساد والشر والكفر والشرك بالله ليستعيد رياسته وزعامته وخلافته في الأرض، وبمكائد إبليس للبشر سيتم تمحيص المؤمنين من الكافرين والله أعلم بهم من قديم الأزل، ولكنه يريد إقامة الحجة علي كل إنسان، فلن يتبع إبليس إلا الكافرين وأصحاب النفوس الخبيثة مثله، وسيتجنبه ويتقي شره ومكائده العباد المخلصين أصحاب العقول المتزنة والنفوس السوية والقلوب الطيبة النقية الطاهرة. ويتضح ما شرحناه من قوله تعالى:
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) (سورة سبأ) .
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100) (سورة النحل).
ففي الآيات السابقة يقر لنا الخالق سبحانه وتعالي أن إبليس صدق علي أكثر البشر ظنه بأنهم سيصبحون أكثر ضلالاً وكفراً بالله منه، فاتبعوه وساروا وراء ضلالته إلا قلة من المؤمنين، وأكد لنا الخالق أنه لم يجعل له سلطان علي كل البشر إلا ليُعلمنا من يؤمن بالآخرة ممن هو منها في شك، وأنه ليس له سلطان علي الذين أمنوا وعلي ربهم يتوكلون أنما سلطانه علي من يتولونه والذين هم به مشركون، أي هم بإبليس مشركون له مع الله في الملك والحكم فيقولون أن إبليس شريك لله في ملكه وحكمه، فقد تحداه وانتصر عليه، تعالى الله عما يقولوه علواً كبيراً.
كل ذلك بدون أن يدعوهم إبليس لاتخاذه إلهاً من دون الله فلا يوجد بالقرآن آية واحدة تقول أن إبليس دعا الناس لعبادته، فالكافرين هم من أتخذوه إلها دون أن يأمرهم بصورة مباشرة بذلك، لأنه لن يجرأ أن يدعو لنفسه كإله لأنه يعرف قدره ويعرف قدر الله جيداً. ودائما كان يقسم لله بعزته وجلاله ويقر بأنه يخاف الله رب العالمين.
قال تعالى :
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) (سورة الحجر) .
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) (سورة الأعراف) .
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) (سورة ص).
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَـذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) (سورة الإسراء).
كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (الحشر : 16 ).
فهذه الآيات تشرح ما دار بين الله وإبليس عندما رفض السجود لآدم، وقد جاء بآيات كل سورة من هذه السور آيات متكررة وأخري مختلفة في ألفاظها ومعانيها عما ورد في السور الأخرى، لتعطينا جميعها صورة كاملة للحوار الذي تم بين الخالق وإبليس وأسباب رفضه السجود لآدم وما سيفعله بآدم وذريته ليضلهم عن سبيل الله، ويمكن تلخيص هذه الحوارات في الآتي :
1. رفض إبليس السجود لآدم الذي خلقه الله بيديه لاعتقاده المبني علي تكبره أنه أشرف من آدم في الخلق فهو مخلوق من نار وآدم مخلوق من طين، والنار من وجهة نظره أشرف من الطين.
2. أمر الله إبليس فور رفضه السجود لأدم أن يخرج من الجنة مذؤوماً مدحوراً، وأقر الله بناء علي رفضه الأمر الإلهي أنه من الكافرين، وتوعده أنه سيكون رجيم وأن عليه لعنته إلي يوم الدين وأنه سيكون من الصاغرين (أي من الممسوخين في الخلقة)
3. طلب إبليس من الله أن ينظره إلي اليوم الذي سيبعث فيه كل البشر وهو يوم القيامة الثانية (يوم الدين) وليس يوم القيامة الأولي (يوم الفصل الذي سيسبقه يوم الوقت المعلوم) فلبي له الله طلبه بأنظاره فقط إلي يوم الوقت المعلوم (ليذوق الموت مثل سائر المخلوقات قبل البعث، فإبليس بدهائه ومكره كان يريد التهرب من الموت بالأنظار ليوم البعث الذي لا موت بعده، لكن الله العليم الخبير كان علي علم بما في مكنونات نفسه وما يدور في خلده فرفض طلبه هذا ليذيقه ألم وعذاب الموت).
4. أعتبر إبليس بنفسيته الخبيثة وعقليته الشاذة الغير سوية موافقة الله علي طلبه الأنظار ليوم الوقت المعلوم، وأنه سيعطيه سلطان علي من يتبعه من نسل آدم، غواية وفتنة من الله له، فحلف بعزته وجلاله اللتين لا يستطيع أن ينكرهما رغم عصيانه للأمر الإلهي أن يغوي كل البشر، فهو يعرف حدوده مع الله وحدوده في خطابه معه والخطوط الحمراء التي لا يجوز له أن يتخطاها مع الله أثناء فترة إنظاره حتى لا يميته الله ويهلكه في الحال.
5. واستعرض إبليس للخالق خطته لغواية البشر وضلالهم واستثني عباد الله المخلصين من أن يمتد سلطانه إليهم، وهنا أوقفه المولي عز وجل عند حدوده فبادره مسرعاً وقطع كلامه ليؤكد له أنه أخذ علي نفسه صراط مستقيم (طريق قويم وعهد مستديم) بحماية ورعاية وحفظ عباده المخلصين، ومن ثم فعباده المخلصين محظور عليه الاقتراب منهم، فهؤلاء ليس له سلطان عليهم أنما سيكون سلطانه علي من يتولونه وبالآخرة وحسابها هم كافرون.
6. في النهاية توعد الله إبليس وكل من سيتولونه ويتبعونه سواء من الإنس أو الجن أنه سيملأ به وبهم أجمعين نار جهنم وسيمكثوا فيها خالدين.
7. وبعد أن يقضي الله الأمر ويدخل الكافرون النار سيلقون باللوم علي إبليس ويتهمونه أنه سبب ضلالهم ودخولهم النار هنا سيكون رده عليهم : إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ (إبراهيم 22)، ثم يؤكد لهم أنه كفر بالآلهة التي أشركوا بها مع الله، ويقر لهم أنه يخاف الله رب العالمين، أما هم فلم يخافوا الله مثله وقد صدق عليهم قوله لله ونجح في خطته الشريرة بالانتقام من آدم وذريته.
وتضمنت خطة إبليس لغواية وفتنة البشر والتي عرضها علي الخالق عز وجل في محاولة منه لأخذ موافقته عليها عدة نقاط جوهرية ومحورية هي :
1. سيزين لهم الحياة الدنيا ومتاعها في الأرض ليعملوا فيها وكأنهم خالدين فينسوا الآخرة ويكفروا بها.
2. سيقعد لهم علي صراطه المستقيم ويغويهم أجمعين (أي سيفسد لهم كل الشعائر والعبادات التي يأمرهم الله بها ويضلهم عنها بعبادات وشعائر وثنية).
3. أن يأتيهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم فيغويهم ويضلهم بوسوسته فلا يكون أكثرهم شاكرين.
4. وزاده الله علي خطته بنود أخري يعلم الخالق تمام العلم أن إبليس سيطور خطته بها مستقبلاً ليستفزز ويحشد بها البشر لحزبه وعبادته من دون الله، وهي الصيحة (الصوت السماوي) التي سيبتكرها وينادي بها في السماء في نهاية الزمان باسم مهديه المزيف أو الدجال كصيحة مضادة للصيحة التي سينادي بها جبريل باسم المهدي كما جاء ببعض الروايات، ووسائل التخييل والمشاهد المصورة لمشاهد يوم القيامة المزيف بالهولوجرام علي ما جاء بمشروع ناسا للشعاع الأزرق، ووسائل الرجل والركوب الغير مألوفة لدي البشر كالأطباق الطائرة وسفن الفضاء التي سيأتي بها رجله ونائبه وقابيله في الشر والفتنة من البشر(المسيح الدجال)، ثم مد الله له في حبل سلطانه علي من يغترون به بمشاركتهم في الأموال والأولاد ووعدهم بوعود وأماني كاذبة، فقال له : وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً.
لذا حذرنا الله في مواضع كثيرة بالقرآن من فتن الشيطان لنا نذكر منها قوله تعالى:
يَا بَنِي آدَمَ لاَ
يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا
أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا
إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا
الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ
(الأعراف : 27 ).
وقبيله
في هذه الآية ليست قبيلته بل المقابل الإنسي له وهو المسيح الدجال أو قابيل (الشيطان
الإنسي المقابل للشيطان الجني) على ما شرحت بكتاب "كشف طلاسم وألغاز القرون الأولى
والدجال......"
فاحذروا يا أولي الألباب فتن الشيطان الرجيم، فالشيطان ليس سوي أحدي الفتن الكبرى التي سنها الله لاختبار البشر وتمحيصهم والتمييز بينهم، وأداة من أدواته لتعذيب الكافرين في الدنيا فهؤلاء هم من يتسلط عليهم إبليس بما منحه الله من سلطان فيقوم بإفقارهم ومشاركتهم في الأموال والبنين ويأمرهم بقتل أولادهم وتقديمهم قرابين بشرية لأصنامهم ويتلبس أحيانا أجسامهم ويسبب إيذاء نفسي وجسدي لهم.......الخ، فاحذروا كيد الله وانتقامه ممن يعصاه بأدواته المختلفة التي منها إبليس والأشرار من البشر.
ولا تظنوا أن الله سيدخلكم الجنة بلا اختبار وابتلاء وامتحان يحدد درجات الناجح والراسب منكم، ويحدد الدرجة والمستوي الذي سيدخله في الجنة أو النار، وليس كل من سيقول أمنت بالله أو يشهد بالشهادتين سيصبح من أهل الجنة وعباد الله المخلصين كما أوهموكم بأحاديث مزيفة وموضوعة علي النبي صلي الله عليه وسلم، والله ورسوله منها براء، فالله لا يخدع بالكلام والقول ولا يحيق به مكر الماكرين، ولن يدخل الله أحد الجنة بالقول فقط، ولكن بالعمل الصالح وبنجاحه في الاختبارات الدنيوية ونجاته من الفتن المتعددة.