الجمعة، 30 أغسطس 2024

إشكاليات اختصام أصحاب الملأ الأعلى عند إخبارهم بخلق آدم

 إشكاليات اختصام أصحاب الملأ الأعلى عند إخبارهم بخلق آدم

هل سيحاسب الله في الآخرة الملائكة والأنبياء والرسل والناس على أي قول قالوه أو فعل ارتكبوه رغم مغفرته لهم في الدنيا؟؟؟؟؟

هشام كمال عبد الحميد

  

من الأمور التي يستهون ويستهتر بها كثير من الناس حساب الله وقضائه بين مخلوقاته في الآخرة، وسبب الأستهتار والتهوين أحاديث موضوعة ومكذوبة علي الله ورسوله تفتح الباب علي مصراعيه لدخول الجنة بقول كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله أو بالتصدق بشق تمرة أو قراءة سورة من سور القرآن أو بحجة أو عمرة أو صيام بعض ايام من شهر شوال.....الخ بدون أن يترجم هذا الإيمان بالله لأعمال صالحة نقوم بها في الدنيا، أو تزعم هذه الأحاديث دخول الجنة بختم أعمالنا في نهاية عمرنا بعمل صالح قليل جداً ولو كنا قد قضينا عمرنا كله في كفر أو ظلم وظلمات أو فسق ومنكرات أو أعمال قتل وخصومات أو ارتكاب محرمات وسيئات......الخ من الخزعبلات المنتشرة بالأحاديث الضعيفة والموضوعة أو المخالفة لآيات صريحة بالقرآن والتي تزعم دخول الجنة لبعض الفئات بدون حساب.

فقد أكد لنا المولي عز وجل أنه سيحاسبنا وجميع مخلوقاته بمن فيهم الملائكة والأنبياء علي كل صغيرة وكبيرة في الآخرة ولو كانت في حجم مثقال ذرة من خير أو شر، والحساب لن يغادر صغيرة ولا كبيرة من أعمالنا المسجلة في كتاب الزبور الموجود عند الله، فالله لا يظلم عنده أحد ولا يساوى بين من قضي عمره في عمل الخير وبين من قضاها في أعمال الشر والسوء ولم يفعل خيراً إلا في فترات ضئيلة جداً من حياته. وفي النهاية سيتوب الله علي من يري أنه يستحق التوبة والرحمة ويسوق المجرمين إلي نار جهنم وبئس المصير لأنهم لا يستحقوا أن يشملهم برحمته ولو تابوا عند الموت أو قبله بقليل.

وهناك عقيدة راسخة عند الناس تقضي بأن الأنبياء لن يحاسبوا وكذلك الملائكة، في حين أن المولى عز وجل بالقرآن أخبرنا بعكس ذلك في قوله تعالى:

وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاؤُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاء فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75) (الزمر)

فهذه الآيات تخبرنا بما سيحدث من نفخة الصعق ثم يتلوها نفخة البعث، ثم يجاء بالنبيين والشهداء ليبدأ الحساب بمحاسبتهم هم أولاً والقضاء بينهم بالحق ومسائلتهم وهم لا يظلمون (لأن القضاء هو محاكمة ومحاسبة ومسائلة)، والشهداء هم الشهود الأمناء المرسلين للأمم، لأن كلمة الشهداء في القرآن أطلقت عليهم وليس علي من يتوفون في المعارك مع الأنبياء فهؤلاء اسمهم في القرآن القتلى في سبيل الله وليس الشهداء، ثم يتوب عليهم ويغفر لهم بعض ذنوبهم سواء أكانت كبيرة أو صغيرة ويشملهم برحمته، لأنه سبق وأن تاب عليهم وغفرها لهم في الدنيا.

فكل الأنبياء من آدم إلي محمد مثلهم مثل سائر البشر، أبتلوا من الله بفتن لأن الفتنة سنة من سنن الله في جميع خلقه، فمنهم من وقع فيها ثم تاب فتاب الله عليه في الدنيا ثم سيتوب عليه في الآخرة ويشمله برحمته، لأن التوبة والمغفرة في الدنيا لن تعفي من الحساب عليها في الآخرة، ومنهم من لم يقع فيها ونجا منها، ومنهم من كان سيقدم عليها فنجاه الله منها قبل الوقوع فيها، والأمثلة لها كثيرة في القرآن ولا مجال للخوض في شرحها هنا فقد نشرحها في مقال قادم.

وبعد أن يقضي الله من خلال قضاة الحساب بين الأنبياء والشهداء يحاسب سائر الناس ويوفي كل نفس بما عملت، ويساق الكافرين إلي جهنم زمراً، ويساق المتقين إلي الجنة زمراً. وأخيراً يتم القضاء والحساب بين الملائكة ويقولوا الحمد لله رب العالمين بعد أن يتوب عليهم ويغفر لهم.

والسؤال الآن: من هؤلاء الملائكة وما الذي فعلوه ليحاسبوا عليه؟؟؟؟؟؟

هؤلاء كما يتضح من الآية السابقة هم الملائكة المسبحون المقدسون لله، وهم كما يتضح من آيات أخري أصحاب الملأ الأعلى، وهم الذين اختصموا فيما بينهم عند توجيه أمر الله لهم بالسجود لآدم بعد تمام خلقه، قال تعالى:

قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِن يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُّبِينٌ (70) إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ (74) (ص)

وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) (البقرة)

في الآيات السابقة يخبرنا الخالق تبارك وتعالى بأمر كبير وعظيم حدث عندما أخبر الله سبحانه وتعالى ملائكة الملأ الأعلى (وكان إبليس من زمرتهم وقيل ببعض الروايات أنه كان طاووسهم أي قائدهم وزعيمهم بالملأ الأعلى والله أعلم بصحة هذا الكلام)، بأمره وحكمه وقضائه سبحانه وتعالي الواجب تنفيذه منهم بخلق آدم من طين وضرورة أن يقعوا له ساجدين بعد أن يسويه ويتم عملية خلقه بنفخ الروح فيه، فاختصم هؤلاء الملائكة وانقسموا لفريقين، فريق قبل الأمر الإلهي وقال سمعاً وطاعة (علم وسينفذ) وفريق اعترض ونظم وقفة احتجاجية وقالوا "أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك"، فرد الله عليهم "أني أعلم مالا تعلمون"

وهؤلاء الملائكة ارتكبوا جرم عظيم في حق الله، فالله لم يسألهم عن رأيهم في هذا المخلوق الجديد (آدم) الذي سيخلقه بل أمرهم بالسجود له عند تمام خلقه (طاعته ووضع أنفسهم تحت حكمه وأمره وإدارته وخلافته).

واختصامهم يثير العديد من التساؤلات المشروعة حول تصرفهم هذا.

فلماذا ابدوا رأيهم فيما سيكون من تصرفات هذا المخلوق كسابقيه من المخلوقات الأرضية الذين سفكوا الدماء وأفسدوا في الأرض والله لم يطلب رأيهم؟؟؟؟؟؟

هل هم أعلم من الله بمدي صلاح أو فساد هذا المخلوق الذي سيقبل حمل الأمانة التي رفضوا حملها هم وجميع مخلوقات السماء والأرض، ولهذا كرمه وفضله الله علي الجميع وجعله خليفة له في الأرض (المقصود بها هنا المجموعة الشمسية كاملة) ويجب علي الجميع طاعته والدخول تحت رياسته؟؟؟؟؟؟

إن اعتراضهم هذا يحمل علي الظن بأنهم نصبوا أنفسهم شركاء مع الله في الخلق والملك والحكم، وأنه لا يجب علي الله أن يقدم علي خلق مخلوق جديد دون أن يأخذ رأيهم فيه؟؟؟؟؟؟

وقولهم "ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك" فيه ما يضع الظنون بأنهم يمنون علي الله بكثرة عبادتهم وتسبيحهم وتقديسهم له، وأنهم يروا في أنفسهم أنهم الأقدر من هذا المخلوق علي الخلافة في الأرض (المجموعة الشمسية) مثلما ظن إبليس في نفسه فقال "أنا أفضل منه خلقتني من نار وخلقته من طين"؟؟؟؟؟؟

هل اعتراض إبليس علي السجود لآدم هو الذي دفع هؤلاء المختصمين من الملائكة إلي الاعتراض أيضاً علي خلافة هذا المخلوق في الأرض أو السجود له أو هو الذي حرضهم علي هذا الاعتراض فساروا وراءه بصفته انه كان زعيمهم وقائدهم قبل طرده من الملأ الأعلى؟؟؟؟؟؟

المهم أسكتهم الله وأخمد ثورتهم بقوله "إني أعلم ما لا تعلمون"، أي ضعوا ألسنتكم في أفواهكم ومش عايز كلام كثير ولا رايكم في أي مخلوق أقرر خلقه، وعند خلق آدم نفذوا ما أمرتكم به، فالتزموا الصمت وتراجعوا.

وعلم الله آدم الأسماء كلها (صفات أصحاب السلطان أو الأمر الإلهي الحاملين لأسمائه الحسني وغيرها من أسماء القهر والجبروت والقوة والعزة والمنع والإمساك والانتقام والشدة....الخ، وعلمه مضارهم ومنافعهم وكيفية تسخيرهم والاستفادة منهم) والتي سيحمل آدم أمانة حملها في صفاته، وعليه أن يتصرف فيها بتوازن وحكمة شديدة حتي لا تجره للمهالك، ثم عرض أصحاب هذه الأسماء علي الملائكة بشخوصهم وذواتهم أو عرض لهم صورهم وليست صور لأشياء كالشجرة أو الماء أو السماء أو الجبال أو الحيوانات كما زعم المفسرون، وقال لهم أنبئوني بأسماء هؤلاء (كلمة هؤلاء تعني أن من تم عرضهم كائنات عاقلة، أي أنبئوني بأسمائهم وصفاتهم ومضارهم ومنافعهم وأفعالهم وقوتهم وقدراتهم....الخ)، فلم يستطيعوا التعرف عليهم لأنهم رفضوا حمل أمانتهم في صفاتهم من قبل ومن ثم حجب الله اسمائهم وصفاتهم وطرق تسخيرهم ورؤيتهم عنهم.

وهنا قال الله لهم "ألم اقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما كنتم تبدون وما كنتم تكتمون" أي أعلم ما كان يدور بخلدكم وما كنتم تتمنوه عند اعتراضكم علي خلق آدم من طمعكم في الخلافة في الأرض (الأرض جميعا أي جميع أراضي أو كواكب المجموعة الشمسية)، وأعلم من الذي حرضكم ودفعكم لذلك. فتابوا وسجدوا جميعاً لآدم وتاب الله عليهم.

لكن رغم هذه التوبة والمعفرة في الدنيا فهناك حساب في الآخرة لهم وللأنبياء والبشر والجن وكل المخلوقات علي ما فعلته من كبيرة أو صغيرة ولو كانت في حجم مثقال ذرة، ولا بد أن يحصل الجميع علي مغفرة ورحمة وتوبة من الله في الآخرة أيضاً بخلاف مغفرة الله له في الدنيا ليدخل الجنة (أي لا بد أن يتم تبييض صحيفة سوابقه وفرمتت ما بها من ذنوب متمثلة في أقوال أو أفعال)، فلكي يكتب لأي مخلوق براءة في كتب الزبر في الآخرة ليدخل الجنة لا بد من الحساب والعفو من الله علي كل صغيرة وكبيرة ارتكبها وتاب منها في الدنيا

فأمور الحساب والقضاء في الآخرة ليست سايبه ولا سداح مداح كما يروي في الأحاديث المكذوبة أنما كل شيء فيها سيكون بمقدار وميزان وحكم حق وعدل مصداقاً لقوله تعالى:

وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (الكهف:49)

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8) (الزلزلة)

وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (الأنبياء:47)

إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (النساء:40)

يعني الحساب في الآخرة لن يغادر اي صغيرة أو كبيرة من قول أو فعل ارتكبناه، وسيكون بموازين ذرية حساسة ودقيقة جداً بتزن وتقيس أعمال الخير والشر بنسب ذرية (مثقال ذرة) وليس بالمللي جرام (مثل موازين الذهب) أو الجرام أو الكيلو جرام.

ويتم الأتيان باي قول أو فعل قمنا به في أي مكان وقد تم تصويره صوت وصورة لنراه أمام أعيننا (نسخة فيديو كامل له)، وأثناء عرض الفيديو تقيم هذه الموازين علي جانبي شاشة العرض أي فعل أو قول لقيم ذرية وفق الحسابات المبرمجة بداخلها من الخالق، ثم تترجمها لقيم حسابية عددية، لتخرج لنا بنتيجة حسابنا النهائية.

وهذا يفسر لنا سر دعوة إبراهيم عليه السلام لله بأن يغفر له خطيئته يوم الدين (يوم الحساب) ولا يخزيه يوم البعث، لعلمه أن أي ذنب ارتكبه وغفره الله له في الدنيا لن يعفيه من الحساب والمسائلة عليه في الآخرة، يعني إبراهيم دعا الله أن يمحو أو يفرمت له ملف ذنوبه كله من عنده ليأتي يوم الحساب فيجد صحيفة أعمال سيئاته بيضاء، قال تعالى على لسان إبراهيم:

 وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ﴿٨٢﴾ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴿٨٣﴾ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ ﴿٨٤﴾ وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ ﴿٨٥﴾ وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ ﴿٨٦﴾ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ ﴿٨٧﴾ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ ﴿٨٨﴾ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴿٨٩﴾  (الشعراء)

فالأنبياء ليسوا معصومين من الأخطاء كما روجوا لنا في الأحاديث المكذوبة، ولكنهم معصومون من الناس فقط بحماية من الله أثناء فترة تنزل الوحي والرسالة عليهم حتي تكتمل الرسالة، فلا يمكن الله أحد من قتلهم أثناء هذه الفترة، وبعد اكتمالها قد يمكن الله بعض المجرمين من قتل بعض الأنبياء لحكمة وقدر مقدر منه جل وعلا. فالعصمة للنبي في القرآن لم يذكر أنها عصمة من الأخطاء وإنما من الناس، قال تعالى:

يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (المائدة : 67)

والآيات التي تؤكد الحساب للجميع في الآخرة بالقرآن كثيرة جداً نذكر منها علي سبيل المثال لا الحصر الآتي:

أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ (الزمر : 9 )

إذن القانتون باليل من المؤمنين الذين يحذرون الآخرة يرجون وينتظرون رحمة الله بهم في الآخرة.

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (غافر : 7 )

إذن حملة العرش في الآخرة سيطلبون من الله أن يغفر للذين آمنوا رغم دعائهم لله في الدنيا بغفران ذنوبهم وتوبته عليهم، فأنهم رغم ذلك ينتظرون العفو الرحمة والبراءة النهائية من الله في الآخرة.

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (الفتح:2)

وهنا وعد من الله للنبي محمد صلي الله عليه وسلم بأن يغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وكلمة ليغفر تفيد المستقبل، أي هذه المغفرة لم تقع في الدنيا ولكن ستقع في الآخرة وعند وقوعها يتم نعمة الله عليه، ولو كانت وقعت في الدنيا لقال الله أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وليس ليغفر لك.

إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً (الفرقان : 70 )

إذن إبدال السيئات بالحسنات لن يقع في الدنيا بل سيقع في الآخرة. وسنكتفي بهذا القدر.

وللمزيد من التفاصيل راجع الفصل السادس من كتابنا "قراءة عصرية لأحداث الساعة وأهوال القيامة بالقرآن والكتب السماوية"

وجميع كتبي يمكن تحميلها من الرابط التالي:

https://heshamkamal.blogspot.com/.../normal-0-false-false...